• 24 Nov, 2025

في قلب حمص القديمة، حيث تختلط رائحة القهوة بصوت الباعة وصدى الخطوات فوق الحجارة العتيقة، تبدأ القصص التي تشبه نبض المدينة. قصص لا تُروى في الكتب، بل تعيش في تفاصيل الناس، في نظراتهم، في ابتساماتهم المتعبة أحياناً والواثقة دائماً. هنا، في هذه الأزقة الضيقة، تتشكل ذاكرة المدينة الحقيقية، وهي ذاكرة يصنعها أهلها كل يوم

من بين هذه القصص، قصة العم “أبو ليث”، صانع المفاتيح الذي يعمل في محله الصغير منذ أكثر من أربعين عاماً. يقول إن مهنته لم تعلّمه صنع المفاتيح فقط، بل تعلّم منها قراءة الوجوه وفهم الحكايات غير المنطوقة. يروي مازحًا أن بعض الزبائن يأتون إليه فقط “للحكي”، وكأن الباب الذي يريدون فتحه ليس باب بيتٍ مغلق، بل باب ضيق في صدورهم. في محله المتواضع، يمرّ الطلاب، أصحاب البسطات، الموظفون، وحتى المسافرون العائدون. كل واحد يترك لديه جملة، ذكرى، أو طرفة، فيراكم بذلك كتابًا مفتوحًا من القصص اليومية

وفي السوق ذاته، تقف “أم رامي” التي تبيع الخضار منذ سنوات طويلة. رغم التعب، تقول إنها تجد في كل صباح سببًا لتبتسم، وتؤمن بأن رزقها مكتوب. ما يميزها ليس خضارها فقط، بل قدرتها على تحويل الشراء والبيع إلى علاقة إنسانية دافئة. كثيرون يمرون لمجرد سؤالها: “كيفك اليوم؟”. بعضهم لا يشتري شيئًا، لكنها ترد بابتسامتها المعهودة: “الأيام ماشية… الله بيُسّر”

هذه القصص الصغيرة، رغم بساطتها، تحمل قيمة كبيرة في تشكيل هوية حمص. فهي تذكّر بأن المجتمعات تُبنى من الناس العاديين، من صبرهم، من صدق تعاملهم، من قدرتهم على تحويل الصعوبات اليومية إلى تجارب مشتركة تُشبه الحياة بكل تناقضاتها

وحين تتجول في الشارع الطويل أو أسواق الحمراء، تلاحظ أن كل زاوية تحمل قصة، وكل محل له ذاكرة، وكل شخص لديه ما يرويه. وربما هذا ما يجعل حكايات أهل حمص مختلفة؛ فهي ليست قصصاً درامية أو مشاهد بطولية، بل تفاصيل يومية بسيطة يصنعها الناس وهم يمارسون حياتهم باحترام وهدوء وقدرة عجيبة على الاستمرار

قصص أهل حمص، بهذا المعنى، ليست مجرد حكايات تُروى، بل هي أرشيف حيّ لهوية مدينة، وشاهد دائم على أن الحياة تستمر، مهما تغيّرت الظروف أو تبدّلت الأزمنة